- مهارة التوقيت
فن
اختيار الوقت المناسب للفعل أو الترك أو التأجيل
- من
خلال سورة يوسف -
كتبه سامي عبدالرزاق بن عيد
يوم الجمعة 11 صفر 1441هـ
مهارة التوقيت: هي اختيار الوقت المناسب للقيام بأمر ما أو تأجيله إلى وقت أنسب أو التوقف عن فعل أمر ما والتراجع عنه والانسحاب إذا اقتضت المصلحة بذلك.
قال ابن القيم رحمه الله " الحكمة فعل ما
ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي"[1]
أو
بمعنى آخر فعل الشيء الصحيح بطريقة صحيحة وفي الوقت الصحيح. فقد يكون التصرف صحيح
وبأسلوب ممتاز لكن في توقيت غير مناسب ، مما يعطي نتائج عكس المرجوة أو يسبب مشكلة
كبيرة.
وسيكون
تركيز حديثنا عن الركن الثالث من أركان الحكمة وهو "اختيار الوقت
الصحيح" أو ما أسميناها "مهارة التوقيت" من خلال عرض
قصة نبي الله يوسف عليه السلام والتي قال الله عز وجل عنها "أحسن
القصص".
قال عز وجل عن يوسف عليه السلام {وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى
ٱلْمُحْسِنِينَ}[2] "فالحكم
النبوة والعلم الفقه في الدين وقيل حكماً يعني إصابة في القول وعلماً بتأويل
الرؤيا"[3].
الوقفة
الأولى :
في بداية القصة
عندما أخبر يوسف أباه يعقوب عليهما السلام بالرؤيا التي رآها، طلب منه والده إلا
يقص الرؤيا على إخوته فيكيدوا له {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ
عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[4].
فمن الحكمة والمصلحة عدم نشر الأخبار والمعلومات لأُناس ممكن أن يأتي منهم ضرر
نتيجة معرفتهم لهذه المعلومة، وليس شرطاً أن يأتي الضرر منهم بسبب أنهم سيؤون بل
لأن معرفة المعلومة لا تصلح لهم فيسيئون استخدامها.
وهنا نجد مهارة
التوقف عن الفعل وهي عدم نشر معلومة معينة في توقيت ما لأنه قد يسبب
خطراً أو يجلب مفسدة، فليس كل ما يعلم يقال.
الوقفة
الثانية :
بعد
مكيدة امرأة العزيز للنساء وتقطعيهن لأيديهن ، قالت امرأة العزيز مهددة { قَالَتْ
فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ
فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا
مِّنَ الصَّاغِرِينَ }[5]
هنا
التجأ يوسف عليه السلام إلى ربه يدعوه أن يصرف عنه كيدهن { قَالَ رَبِّ
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ۞ فَاسْتَجَابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[6] من هنا نستفيد بضرورة قطع العلاقات التي تأتي
منها مضرة أو لا توجد مصلحة متحققة في الاستمرار فيها، فعلينا أن نراجع علاقاتنا وإن
نختار الوقت المناسب لنوقف استمرار هذه العلاقات والتخلص منها. ومن ذلك قطع
العلاقات بأصحاب السوء.
أما العلاقات التي بقاؤها مطلب شرعي ولا يمكن
للإنسان قطعها مثل العلاقة مع ذوي الأرحام ، مع أن هذه العلاقات قد تجلب للشخص بعض
الأذى فينبغي تقنين هذه العلاقات بحيث يقلل الإنسان من آثارها السيئة مع احتفاظه
بها.
نحتاج أن نعرف الوقت المناسب للتوقف
عن الاستمرار في بعض العلاقات أو حتى الشراكات في التجارة والتي تجلب لنا المضرة
أو لا تحقق لنا أي قيمة مضافة.[7]
الوقفة الثالثة :
لما دخل يوسف عليه السلام السجن ، وطلب منه
الفتيان تفسير رؤاهما ، لم يستعجل يوسف عليه السلام تفسير الرؤى حيث وجد فيهما
تشوقاً لسماع كلامه حيث توسما فيه الصلاح {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[8]
فبعد أن وعدهما بتفسير رؤاهما قبل وصول الطعام ، قدم الأَوْلى وهي الدعوة إلى
توحيد الله عز وجل {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا
عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[9]
وهنا نستفيد أمرين الآول اختيار الوقت المناسب
في التخاطب مع الآخرين والآمر الآخر هو ترتيب الأولويات وتقديم المهم على
الأقل الأهمية.
الوقفة الرابعة :
بعد
تفسير يوسف عليه السلام للرجلين رؤاهما تحدث مع الفتى الذي ظن أنه ناجٍ منهما
والذي سيصبح ساقي الملك وطلب منه أن يذكر أمره للملك لعله يخرج من السجن. لكن
الشيطان أنساه ذلك فلبث يوسف عليه السلام في السجن بضع سنين. { وَقَالَ
لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ
الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }[10]
وهنا أيضاً نجد حسن اختيار يوسف عليه السلام
للوقت واستثمار الفرصة للخروج بحل لمشكلته.
الوقفة الخامسة :
عندما رآى الملك رؤيا أقلقته وقد تكررت عليه
كثيراً ، ولم يجد من يفسرها التفسير الصحيح تذكر ساقي الملك يوسف وطلب أن يمكّن من
الذهاب إلى يوسف عليه السلام ليفسر لهم رؤيا الملك.
هنا كانت فرصة ليوسف عليه السلام ليقايضهم ويطلب
خروجه من السجن مقابل تفسير رؤيا الملك. لكنه لم يفعل وانتظر لوقت أفضل
وفضل تأجيل المطالبة لأنه ممكن أن يحصل منهم على حريته ليس لقناعتهم
ببراءته ولا عن طيب نفس من الملك وإنما بسبب استغلاله لحاجتهم له مقابل تفسير
الرؤيا، ومع ذلك يبقى مذنبا من وجهة نظرهم. وهذا الأسلوب ليس مستحسن التعامل به مع
أصحاب السلطة والنفوذ مثل الملك، لذا قام يوسف عليه السلام بتفسير الرؤيا دون
مقابل وقدم معها مشورة وخطة عملية وآلية من الخروج من مشكلة القحط التي سوف تستمر
سبع سنين. مما أظهر للناس علمه وحكمته في تدبير الأمر.
ولما أُبْلغ الملك بتفسير رؤياه تأكد أن هذا هو
التفسير الصحيح لها ، طلب اخراج يوسف عليه السلام من السجن وإحضاره لمقابلته. لكن
يوسف عليه السلام لم يستعجل بالخروج هذه المرة أيضاً وإنما فضل أن يثبت براءته قبل
خروجه من السجن.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ
فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ
النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ
عَلِيمٌ }[11]
وهنا تريث في الخروج حتى تظهر براءته وأنه تم
سجنه ظلماً وعدواناً. ولأن خروجه في هذه الحالة قبل اثبات براءته هو نتيجة عفو
الملك عنه ، وليس لكونه بريء في نظر الناس.
الوقفة السادسة :
عندما ظهرت براءة يوسف عليه السلام للجميع بعد
اعتراف امرأة العزيز طلب الملك احضار يوسف لمقابلته
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا
مَكِينٌ أَمِينٌ}[12]
في المرة السابقة قال الملك "ائْتُونِي
بِهِ" فقط ، لكن هذه المرة بعد ثبوت براءته {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} "أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي ،
ولما خاطبه الملك وعرفه ، ورأى فضله وبراعته ، وعلم ما هو عليه من خلق وكمال قال
له الملك
: "إِنَّكَ الْيَوْمَ
لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ" أي :
إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة"[13].
{قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[14]
"فـ { قَالَ } يوسف طلبا للمصلحة العامة: {
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ } أي: على خزائن جبايات الأرض وغلالها، وكيلا
حافظا مدبرا.وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع
العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه"[15]. وهنا يتبين أيضاً حسن اختيار التوقيت المناسب من قبل يوسف
عليه السلام.
الوقفة
السابعة :
لما قدم إخوة يوسف إلى مصر وقد عرفهم يوسف في
اللحظة التي رأهم فيها ومع ذلك لم يستعجل في كشف شخصيته لهم ، وانتظر توقيت
أفضل منه ،بل إنه قام بصناعة فرصة أفضل عندما طلب منهم إحضار أخيه الشقيق
بنامين ، وكيف أخذه بخطة رسمها بنفسه.
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ۞ وَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا
تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ۞
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}[16]
الوقفة الثامنة :
{قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ
لَّهُ مِن قَبْلُ ۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ
قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا ۖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}[17]
"قال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من
متاع بنيامين : {إن
يسرق فقد سرق أخ له من قبل
} يتنصلون إلى العزيز من التشبه به ، ويذكرون أن هذا فَعَلَ كما فَعَلَ
أخ له من قبل ، يعنون به يوسف ، عليه السلام .ومع ذلك أسرّها يوسف في نفسه ، يعني : الكلمة التي بعدها ، وهي قوله :{أنتم شر
مكانا والله أعلم بما تصفون
} أي : تذكرون .
قال هذا في نفسه ، ولم يبده لهم"[18]
وهنا نستنبط
فائدة بالتوقف أو الامتناع عن فعل أمر ليس مناسباً القيام به في ذلك الوقت.
ثم
لما عاد إخوة يوسف إلى مصر للمرة الثالثة بعد أن أمرهم أبوهم بالبحث عن يوسف وأخيه
بنيامين
{فَلَمَّا
دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ
وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا
ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ۞ قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم
بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ۞ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ
ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ
مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[19]
ولما
كان الوقت مناسباً لكي يكشف يوسف عليه السلام لهم حقيقة شخصيته قام
بالتلميح لهم ليكتشفوا تلك الحقيقة بأنفسهم.
الوقفة التاسعة :
لما قدم يعقوب عليه السلام إلى مصر وأهله وتحققت
رؤيا يوسف عليه السلام {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ }
عندها أصبح الوقت مناسباً لإخبارهم بخبر الرؤيا التي رأها يوسف عليه السلام
في صغره والتي أُخْفيَت عنهم طوال هذه المدة.
{فَلَمَّا
دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن
شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ۞ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي
وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۞ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي
مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ}[20]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.
[7]
وتدخل تحت هذه المهارة مهارة أخرى وهي "مهارة التشذيب"
أو التقليم وهي التخلص من الأمور والأشياء والعلاقات التي ليس في استمرارها فائدة
مرجوة ن وسنتحدث عن هذه المهارة في مقالة لاحقة بإذن الله تعالى.
تعليقات
إرسال تعليق